أهم عقبة تعترض طریق الدین وتمنع تفاعله مع الحیاة وتحول دون تأثیره فی المجتمع هی تجرید الدین من لبابه وانتزاع روحه من ممارساته….
فإن لکل عبادة من عبادات الإسلام ولکل شعیرة من شعائره روحاً عظیمة ومحتوى کبیرا فإذا ما جردت شعائر الإسلام وعباداته من روحها ومحتویاتها وتشبث الناس بالممارسات الفارغة والإطارات الشکلیة فان ذلک یعنی قتل أهداف الدین وسحق رسالته العظیمة ومنع تفاعله مع الحیاة.
ویصبح الدین حینئذ وجود شکلی أجوف لا یقدم للحیاة أیة خدمة مفیدة، مما یحدث رد فعل ضد الدین لدى أی ملاحظ بسیط حین ینظر إلى الدین کتقالید عقیمة وعادات بالیة لیس إلا أی دور فی الحیاة ولا تقدم أی اثر فی المجتمع.
وهذه هی مشکلة الدین فی الوقت الحاضر حیث یهتم اغلب المتدینین بمظاهر الدین وشکلیاته وممارساته العبا دیة دون أن ینتبهوا إلى أهداف هذه المظاهر وغایات هذه الممارسات فیحاولون تحقیقها.. ونشأ الجیل الجدید فتعرف على الدین من خلال هذه الممارسات الجوفاء والتی سئمها ومجّها أخیراً واخذ یتجه یمینا ویسارا بحثاً عن أیدیولوجیة أخری تتفاعل مع الحیاة وتتبنى قضایا الإنسان وتعالج مشاکله.
یقول الأمام أمیر المؤمنین علی ابن أبی طالب علیه السلام: “إلا وان للإسلام غایات فانتهوا به إلى غایاته” لا- نهج البلاغة-. فالصلاة مثلا عبادة عظیمة تحظى باهتمام خاص من الشریعة الإسلامیة، ولکنه لیس المقصود من الصلاة مجرد الحرکات والألفاظ بل النفسیة الملتزمة التی تزرعها الصلاة فی نفس المصلی عن طریق التفکیر والتأمل لأعمال الصلاة وتلاواتها، یقول تعالى ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنکَرِ﴾.
هذا هو هدف الصلاة فإذا أدى المصلی واجبات الصلاة الشکلیة، من حرکات وألفاظ، ولکنه لم یسمح للصلاة أن تتفاعل فی نفسه لتزرع هدفها السامی، فصلاته حینئذ لا قیمة لها، بل هی ویل ووبال علیه، یقول تعالى ﴿فَوَیْلٌ لِّلْمُصَلِّینَ * الَّذِینَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ یعنی عن أهداف صلاتهم غافلون.
والصوم له هدف أساسی أیضا وهو تنمیة الإرادة وتدریبها عند الإنسان حتى یتمکن من مقاومة الانحراف ویتقی المعاصی. یقول الله تعالى ﴿یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِن قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ﴾ أی من أجل أن تحصلوا على ملکة التقوى، فإذا امتنع الصائم عن المفطرات دون أن یراعی هذا الهدف، کان صیامه عبثا کما یؤکد الحدیث الشریف: ” کم من صائم لیس له من صومه إلا جوعه وعطشه “.
والحج هو الآخر شعیرة لها رسالة عظیمة فی حیاة المجتمع الإسلامی، وآثار فعالة فی مختلف جوانب الحیاة. یقول الله تعالى ﴿وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ یَأْتُوکَ رِجَالًا وَعَلَى کُلِّ ضَامِرٍ یَأْتِینَ مِن کُلِّ فَجٍّ عَمِیقٍ * لِیَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَیَذْکُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِی أَیَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ أما إذا اقتصر الحج على طقوس ومناسک هی أشبه بالألغاز- حینما تنفصل عن رسالتها- فلیس هو ذلک الحج المطلوب من قبل الله وإنما هو حج مزیف.
وهکذا کل شعائر الإسلام وعباداته..
وأمامنا فی هذا الحدیث عبادة مهمة یؤکد علیها الإسلام ویلح فی التشجیع علیها وهی تلاوة القرآن الکریم..
﴿وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلکم ترحمون﴾1٫
﴿وأمرت أن أکون من المسلمین وأن أتلو القرآن﴾2٫
﴿ورتل القرآن ترتیل﴾3٫
﴿فاقرأوا ما تیسر من القرآن ﴾4٫
﴿وقرأنا فرقناه لتقرأه على مکث ونزلناه تنزیل﴾5
بالإضافة إلى مجموعة ضخمة من الأحادیث:
فعنه صلى الله علیه وآله: ” نوروا بیوتکم بتلاوة القرآن، فإن البیت إذا کثر فیه تلاوة القرآن کثر خیره ومتع أهله، وأضاء لأهل السماء کما تضیء نجوم السماء لأهل الدنیا “.
وعن الأمام الصادق- علیه السلام-” القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ینبغی للمرء المسلم أن ینظر فی عهده وان یقرأ منه فی کل یوم خمسین آیة”.
وعن الإمام الصادق علیه السلام أیضاً: ” ما یمنع التاجر منکم المشغول فی سوقه إذا رجع إلى منزله أن لأصنام حتى یقرأ سورة من القرآن فیکتب له مکان کل آیة یقرأها عشر حسنات وتمحى عنه عشر سیئات “.
وفی هذا الشهر المبارک- شهر رمضان- یتضاعف اهتمام الإسلام بهذه العبادة أضعافا مضاعفة.. حتى أن الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله یقول: ” من تلا فیه آیة من القرآن کان له مثل أجر من ختم القرآن فی غیره من الشهور “.
ویقول الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام: ” لکل شیء ربیع وربیع القرآن شهر رمضان “.
ولکن لماذا کل هذا الاهتمام الذی یولیه الإسلام لتلاوة القرآن؟ ما هو الهدف الذی یکمن وراء هذه العبادة هل هو لمجرد التلاوة أم ماذا؟
إن کثیرا من الناس یقرؤون القرآن وبطون صفحاته تلاوة وتجویدا وتلحینا وخاصة فی هذا الشهر الکریم، ولکن هل یعرفون جیدا ما هو هدف الإسلام من هذه العبادة؟ وهل یعون هذا الهدف ویحرصون على تحقیقه؟ أم یتعاملون مع هذه العبادة معاملة شکلیة سطحیة؟ من الملاحظ إن بعض من یقرأ القرآن یقرأه قراءة تجاریة على شکل ختمات یأخذ مقابل کل ختمة آجرا وما یهمه من التلاوة لیس إلا إنهاء الختمة لإبراء الذمة واخذ الأجرة حلالا!!
کما إن بعضا یقرأ القرآن للعادة والمجاملة حیث جرت عادة الناس إن یقرءوا فی مجالس العزاء –الفواتح- أجزاء من القرآن فهو یسایر الناس فی عادتهم ویقرأ جزءا للمجاملة وبحسب العادة ولیس له من تلاوته أی هدف آخر !!
وبعض آخر یقرأ القرآن لطلب الثواب بتلاوة حروف الآیات فقط !!
وکل هذه الأهداف الساذجة تعتبر تزییفا للهدف الأساسی من تلاوة القرآن فما هو ذلک الهدف؟.
إن الهدف الرئیسی المتوخى من تلاوة القرآن هو تحقیق الغایة التی أنزل من أجلها فما هی تلک الغایة؟.
إنها أولا: صیاغة نفس الإنسان صیاغة جیدة وکنس رواسب الشر والانحراف ومعالجة أمراض الفساد.. ویؤکد القرآن هذا الهدف بقوله ﴿یَا أَیُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْکُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّکُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِی الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِینَ﴾6٫
وهدف القرآن ثانیا: بناء المجتمع بناء حضاریا تقدمیا سعیدا بکل ما لهذه الکلمات من معنى وهذا لا یتأتى إلا بمکافحة الظلم والظلام ونشر العلم والوعی لیعرف المجتمع الطریق الأفضل للتقدم والحیاة، یقول الله تعالى ﴿کِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَیْکَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِیزِ الْحَمِیدِ﴾.
وهدف القرآن ثالثا: تنظیم علاقة الإنسان بالکون والحیاة عن طریق اکتشاف قوانین الحیاة وسنن الکون والتفکر فیها ومن ثم تفجیر ثروات الکون والاستفادة منها..
یقول الله تعالى ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَانًا لِّکُلِّ شَیْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِینَ﴾7٫
وقارئ القرآن یجب إن یجعل هذه الأهداف العظیمة للقرآن نصب عینیه ویتدبر فی کل آیة یتلوها لیرى إلى أهداف هدف من الأهداف الثلاثة ینصب اهتمامها ویحاول إن یستنتج منها رؤیة أو فکرة ثم یعرض نفسه وسلوکه على رؤیة القرآن وفکرته لیتسنى له تغییر نفسه وصیاضها وفق مفاهیم القرآن.
فمثلا، قد یشعر الإنسان من نفسه الرغبة فی عدم الإنفاق وبذل المال فی سبیل الله بدافع الحرص على الثروة وتوفیرها للفائدة والاستثمار.. وهذا الإنسان حینما یقرأ فی سورة آل عمران قوله تعالى ﴿وَلاَ یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ یَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَیْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَیُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ یَوْمَ الْقِیَامَةِ وَلِلّهِ مِیرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ﴾8٫
حینما یقرأ هذه الآیة یجب إن یغیر نظرته الخاطئة حول الإنفاق فهو لیس خسارة کما إن الاحتفاظ بالمال والحرص علیه لشیء خیرا وربحا. وصلیا یبادر إلى الأنفاق ویصمم على الاستمرار فی البذل والعطاء.
هذا فی مجال الهدف الأول للقرآن، أما فی المجال الثانی فحینما یعیش الإنسان فی مجتمع تسرب إلیه الفساد والانحراف وغزته تیارات الضلال والجهل وسیطر علیه أهل الظلم والجور فقد یتصور هذا الإنسان إن دوره ینتهی عند حدود نفسه فعلیه إن یحافظ على إیمانه وصلاحه ولا یهمه بعد ذلک واقع مجتمعه وأوضاعه.. و یأتی هذا الشخص لیقرأ القرآن فیمر علیه قوله تعالى ﴿وَلْتَکُن مِّنکُمْ أُمَّةٌ یَدْعُونَ إِلَى الْخَیْرِ وَیَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَیَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنکَرِ وَأُوْلَئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾9٫
ویتلو قوله تعالى ﴿کَانُواْ لاَ یَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنکَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا کَانُواْ یَفْعَلُونَ﴾10٫
بعد أن یقرأ الإنسان المؤمن هذه الآیات هل یصح بعد ذلک الاحتفاظ بنظرته الأنانیة السابقة إذا کان یعی ما یقرأ؟.
کلا، وإنما یصحح فکرته ویستعد للقیام بدوره فی إصلاح المجتمع.
وفی مجال الهدف الثالث أمامنا المثال التالی:
فالعالم الذی یشکک فی إمکانیة غزو الفضاء ولا یعرف الأخطار والعقبات التی تواجه الرحلة إلى هناک لابد وان یستفید من القرآن حینما یقرأ قوله تعالى ﴿قل انظروا ماذا فی السماوات والأرض﴾11٫
وقوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُم مَّا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الْأَرْضِ﴾12٫
وقوله تعالى ﴿یَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَیِّ آلَاء رَبِّکُمَا تُکَذِّبَانِ * یُرْسَلُ عَلَیْکُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ﴾13٫
فالآیات تفید بوضوح إمکانیة غزو الفضاء فالله یأمرنا بالنظر إلى ما فی السماوات والأرض ولا یتم النظر بشکل صحیح إلا بالسفر إلى هناک، ولا یطلب الله من الشر شیئا تحیلا. وتقرر الآیات بصراحة إن امحون إنما خلق لأجلنا وأنه بسماواته وأراضیه مسخر لنا فلماذا یستحیل علینا الوصول إلى أعماقه؟ وکیف یتألق لنا الاستفادة الکاملة منه ما لم نتعرف على مجاهیله؟ وأخیرا فإن القرآن یقدم لنا دعوة مفتوحة لزیارة الفضاء ﴿انفذوا فی أقطار السماوات…﴾.
———————————————————-
1- 204:الأعراف
2-النمل:91-92
3- المزمل:4
4- المزمل:20
5- الإسراء:106
6- یونس:57
7- النحل:89
8- آل عمران:180
9- آل عمران:104
10- المائدة:179
11- یونس:101
12- لقمان:20
13- الرحمن:33
انتهای پیام
ملف المرفقات: