مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) عبر القرن الأول الهجري
إن مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) ظل منذ أن احتضنته أرض کربلاء قبله لملايين الأباة والأحرار، ومهوى لجميع المۆمنين والموالين باختلاف ألسنتهم وقومياتهم على مر العصور، ورغم محاولات الطغاة لطمسه إلا انه بقي مرکز إشعاع للعالم حيث مکروا ومکر الله والله خير الماکرين. لقد أصبح المرقد الحسيني الشريف حربة ذا حدين يستخدمها السلاطين والأمراء، والرۆساء والوزراء کأداة داعمة من جهة، ووسيلة دامغة من جهة أخرى، وعلى أثره صنع تاريخ مرقده الشريف، الذي نحاول إلقاء الضوء عليه واستعراض ما يمکن استعراضه بشکل موجز وسريع جداً.
القرن الأول الهجري:
أول من أقام رسما لقبر الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) هو الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مع بني أسد، حين دفنوا الإمام الحسين (عليه السلام) وأجساد الشهداء من أهله وأنصاره وذلک يوم الثالث عشر من شهر محرم الحرام عام 61ه الموافق لـ(15/10/680م. وذلک تطبيقاً لما روته السيدة زينب الکبرى (عليها السلام) في حديثها إلى الإمام السجاد (عليه السلام) حيث قالت: (لقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون من أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيک سيد الشهداء لا يدرس أثره ولا يعفى رسمه، على مرور الليالي والأيام... ثم يبعث الله قوماً من أمتک لا يعرفهم الکفار، لم يشارکوا في تلک الدماء بقول ولا فعل ولا نية فيوارون أجسامهم ويقيمون رسما لقبر سيد الشهداء بتلک البطحاء يکون علماً لأهل الحق وسبباً للمۆمنين إلى الفوز) (کامل الزيارات: لابن قولويه 262- 265).
ولعل القبر الشريف کان في بداية الأمر مرتفعاً وبارزاً قليلاً عن الأرض، کما يظهر من کلام جابر الأنصاري حين زار القبر الشريف في الأربعين الأول حيث قال: (ألمسوني القبر) (مدينة الحسين: لمحمد حسن بن مصطفى الکليدار: 1/ 19)، بل يۆيد ذلک ما يروى من أن السيدة سکينة (عليها السلام) ضمت قبر أبيها الحسين (عليه السلام) عند رجوعها من الشام، وقيل إن بني أسد حددوا له مسجداً وبنوا على قبره الشريف سقيفة وقيل إنهم وضعوا على القبور الرسوم التي لا تبلى (تاريخچة کربلاء: محمد بن أبي تراب کرباسي حائري: 56) وما بين عامي 61 - 63ه يذکر محمد باقر بن عبد الحسين مدرس: (أنهم بنوا في العهد الأموي مسجداً عند رأس الحسين (عليه السلام)... ثم شيِّد القبر من قبل الموالين) (شهر حسين: 160) وأما عن عام 64ه يقول الرحالة الهندي محمد هارون: (أول من بنى صندوق الضريح بهيئة حسنة وشکل مليح بنو نضير وبنو قينقاع) (مجلة الموسم الهولندية: عدد 14، ص329). ويظهر أن التوابين عندما قصدوا زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) في ربيع الأول من عام 65ه قبل رحيلهم إلى عين الوردة طافوا حول هذا الصندوق وکان عددهم يقارب أربعة آلاف رجل.. (مدينة الحسين: محمد حسن بن مصطفى الکليدار 1/ 20).
وفي سنة 66ه وعندما استولى المختار بن أبي عبيدة الثقفي على الکوفة عمّر على مرقده الشريف قبة من الجص والآجر، وقد تولى ذلک محمد بن إبراهيم بن مالک الأشتر، واتخذ قرية من حوله، وکان للمرقد بابان شرقي وغربي وبقي على ما قيل حتى عهد هارون العباسي (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار 160) وإلى هذا يشير السماوي في أرجوزته:
وجاء بعد ذلک المختار حين دعاه والجنود الثار وعمر المسجد فوق الجدث فهو إذاً أول شيء محدث وبقي المسجد حول المرقد إن کان قد أسس للتعبد ولم يزل يزار في جناح حتى أتى الملک إلى السفاح (مجالي اللطف: 2/ 18).
ويذکر المۆرخ السيد عبد الجواد الکليدار تفصيل حول مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) ومقاساته وشکله وموقعه ومن جملة کلامه (...فيلمع للناظر عن بعيد کبيضة نعامة في وسط الصحراء، وفوق هذا البناء الجميل البسيط تستقر سقيفة تعلوها قبة هي أول قبة من قباب الإسلام الخالدة التي خيمت لأول مرة في الجانب الشرقي من الجزيرة العربية بين ضفة الفرات وحافة الصحراء في الاتجاه الشمالي...الخ) (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: 81). مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) عبر القرن الثاني الهجري
القرن الثاني الهجري:
يبدو أن القبة التي شُيّدت في عهدالمختار ظلت قائمة لحين زيارة الإمام الصادق (عليه السلام) لقبر جده الإمام الحسين (عليه السلام) حوالي عام 132ه حيث روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أردت قبر الحسين (عليه السلام) في کربلاء قف خارج القبة وارم بطرفک نحو القبر، ثم ادخل الروضة وقم بحذائها من حيث يلي الرأس، ثم اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السلام) ثم توجه إلى الشهداء، ثم امش حتى تأتي مشهد أبي الفضل العباس فقف على باب السقيفة وسلم) (بحار الأنوار: المجلس: 98/ 259)
ويقول الکرباسي: إن مجموع السقيفة والمسجد کان يشکل مساحة ذات أربعة أضلاع حول مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) وابنه علي الأکبر (عليهما السلام) وکان للمرقد بابان أحدهما من جهة المشرق عند قدمي علي الأکبر (عليه السلام) وکانت مراقد الشهداء (عليهم السلام) خارجة عن إطار هذه المساحة، والآخر من جهة الجنوب (القبلة) (کما هو لحد اليوم) (تاريخچة کربلاء: محمد بن أبي تراب کرباسي حائري: 56) ويتبين أن مساحة الحائر کانت حوالي (25أ—25) ذراعاً من الخارج کما يفهم من رواية الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (امسح من موضع قبره اليوم، فامسح خمسة وعشرون ذراعاً من رجليه وخمسة وعشرين ذراعاً مما يلي وجهه وخمسة وعشرين ذراعاً من خلفه وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه) (کامل الزيارات: لابن قولويه: 272/ ح:4).
وتۆکد بعض المصادر بأنه کانت هناک شجرة سدرة أيام الحکم الأموي يستظل بفيئها ويستدل بها على قبر الإمام الحسين (عليه السلام) ولذلک سمي الباب الواقع في الشمال الغربي من الصحن - فيما بعد بباب السدرة (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 34) وامتد عمر هذا البناء المۆلف من المسجد والمرقد ذي القبة طوال العهد الأموي فلم يتعرض للهدم رغم العداء السافر تجاه أهل البيت (عليهم السلام) مع أنهم وضعوا المسالح لمنع زيارة قبره (عليه السلام)، إلا أن ضعف الدولة الأموية في أواخر عهدها کسر حاجز الخوف فتدفقت الأفواج إلى زيارته ولم يتمکنوا من منعهم بل أدرکوا أن التعرض للمرقد أو المساس به بقصد تخريبه يشکل سابقة خطيرة ومشکلة هم في غنى عنها.
ولکن المنصور العباسي الذي حکم ما بين 136 - 158ه صب جام غضبه على العلويين وآثارهم وتطاول على القبر المطهر فهدم السقيفة في عام 146ه . وفي حدود عام 158ه وذلک في عهد المهدي العباسي أعيد تشييد السقيفة (ومضات من تاريخ کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 18).
ولما کانت سنة 193ه ضيق هارون العباسي الخناق على زائري القبر وقطع شجرة السدرة التي کانت عنده وکرب موضع القبر وهدم الأبنية التي کانت تحيط بتلک الأضرحة المقدسة وزرعها، وذلک عبر واليه على الکوفة موسى بن عيسى بن موسى الهاشمي (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 34). وفي عام 198ه عندما استتب الأمر للمأمون وهو سابع حکام العباسيين، اقتضت سياسته لتنفيذ غرائزه وأطماعه مراعاة شعور الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) لامتصاص النقمة المتزايدة عليه والمنافسة السياسية لحربه مع أخيه الأمين وقتله إياه، ففسح المجال لزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وتعميره، فبنى عليه قبة شامخة وحرم فخم وبدأ الناس يسکنونه من جديد. ثم إن المأمون أراد التقرب إلى العلويين وأهل البيت (عليهم السلام) لاستحکام ملکه فأصدر قراره بولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) في السابع من شهر رمضان عام 201ه وبتعمير مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) فأمر بتشييد قبة عظيمة وروضة فخمة أحسن من ذي قبل، و بذلک يکون قد عُمّر المرقد في عهد المأمون مرتين کما قام المأمون بتوسيع الحير (الحائر) (تاريخچة کربلاء: محمد بن أبي تراب کرباسي حائري: 59).
مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) عبر القرن الثالث الهجري
القرن الثالث الهجري:
يقول سلمان آل طعمة: (إن الشائع على ألسنة الباحثين والمۆرخين أن کربلاء کانت في القرن الثالث مملوءة بالأکواخ وبيوت الشعر التي کان يشيدها المسلمون الذين يفدون إلى قبر الحسين (عليه السلام) (تراث کربلاء: 231) إلى جانب بيوت المجاورين له. هذا ولم يتعرض مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) في عهد المعتصم العباسي والواثق العباسي إلى الهدم والتخريب، کما لم يتعرض الموالون لأهل البيت (عليهم السلام) للاضطهاد بسبب اضطراب الوضع السياسي (شهر حسين: محمد باقر بن عبد الحسين مدرسي:202).
ولما کانت سنة 232ه تولى الحکم المتوکل العباسي وکان شديد البغض للإمام أمير المۆمنين علي (عليه الصلاة والسلام) ولذلک عمد إلى هدم قبر الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) أربعة مرات (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 19).
أ) المرة الأولى: عام 233ه وذلک إثر ذهاب إحدى جواريه المغنيات إلى زيارة شعبان في کربلاء (موسوعة العتبات المقدسة قسم کربلاء: جعفر الخليلي: 258)، فأنفذ عمر بن فرج الرخجي لهدم ما عمره المأمون العباسي وأمر بتخريب قبر الحسين (عليه السلام) وحرثه، فلما صار إلى الناحية أمر بالقبر فمر بها على القبور کلها فلما بلغت قبر الحسين (عليه السلام) لم تمر عليه (بحار الأنوار: للمجلسي 45/ 398: ح8) ثم إن الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) رغم الاضطهاد والتنکيل عمدوا إلى تعمير مرقده الشريف وإنشاء البيوت من حوله (شهر حسين: محمد باقر عبد الحسين مدرس: 207).
ب) المرة الثانية: سنة 236ه حيث عمد المتوکل أيضاً إلى هدم الضريح المطهّر وملحقاته وزرعه بعد تسوية أرضه، کما أمر بهدم ما حوله من المنازل والدور ثم منع زيارة المکان وغيره من البقاع الشيعية المقدسة (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 205) (مروج الذهب للمسعودي: 4/ 51) وهدد الزوار بفرض عقوبات صارمة عليهم، فنادى بالناس: من وجدنا عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق (موسوعة العتبات المقدسة قسم کربلاء: جعفر الخليلي: 258 - 93).
وأوعز مهمة الهدم لرجل يهودي اسمه إبراهيم الديزج فبعثه المتوکل إلى کربلاء لتغيير قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وإن الديزج حسب أمر المتوکل لم يکتف بهدم القبر وإنما ضرب ما حوله فهدم مدينة کربلاء کلها وأنه أوکل في أطرافها المسالح لمنع الزائرين من الزيارة بالعنوة وبعقاب القتل (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 203) وجعل المتوکل عقوبة على زائري الإمام الحسين (عليه السلام) وهي قطع يده للمرة الأولى، ورجله للمرة الثانية (دراسات حول کربلاء ودورها الحضاري: 628).
والتقى أبو علي العماري بإبراهيم الديزجٍ وسأله عن صورة الأمر، فقال له: أتيت في خاصة غلماني فقط، وأني نبشت فوجدت بارية جديدة عليها بدن الحسين بن علي، ووجدت منه رائحة المسک فترکت البارية على حالها وبدن الحسين على البارية، وأمرت بطرح التراب عليه وأطلقت عليه الماء، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر، وکانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه، فحلفت لغلماني بالله وبالإيمان المغلظة لئن ذکر أحد هذا لأقتلنه (بحار الأنوار للمجلسي: 45/ 394: ح2) ويصف السماوي الحادثة کلها ومنها يقول:
ثم حرثنا الأرض لکن القبر تأتي إلى ذاک المقام وتذر وکلما تضرب للکراب تقهقرت تمشي على الأعقاب ثم مخرنا الماء فوق القبر فحار عنه واقفاً لا يجري (مجال اللطف: 2/ 26).
ويبدو أن محبي أهل البيت (عليهم السلام)، لم يترکوا قبر إمامهم على حاله بل عمروه بما يتناسب على رغم تضييق السلطات عليهم.
ج) الثالث: عام 237ه حين بلغ المتوکل أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) فيصير إلى قبره منهم خلق کثير فأنفذ قائداً من قواده واسمه هارون المعري وضم الوزير معه وغيرهم إضافة إلى إبراهيم الديزج لينفذ الهدم والحرث إضافة إلى الجند، ليشعِّث قبر الحسين (عليه السلام) ويمنع الناس من زيارته والاجتماع إلى قبره، ففعلوا ما أمروا به (بحار الأنوار: للمجلسي 45/397 ح5- 45/395/ح3) ويعلق عبد الجواد الکليدار (إن الطاغية لم يوفق في هذه المرة إلى مثل ما ارتکبته يداه في المرات السابقة وذلک تأثير الرأي العام من جهة ومن جهة أخرى تجاه المقاومة الفعلية الشديدة التي لاقاها جنوده من قبل الأهلين) (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 209) ولم يزل زواره (عليه السلام) يقصدونه ويصلحون قبره الشريف عن الهدم المتکرر.
وفي سنة 240ه توجه الأشناني وهو من محبي أهل البيت (عليهم السلام) إلى زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) سراً برفقة أحد العطّارين فلما وصلا القبر الشريف جعلا يتحريان جهة القبر حتى عثرا عليه وذلک لکثرة ما کان قد مخر وحرث حوله فشاهداه وقد قلع الصندوق الذي کان حواليه واحرق، وأجري عليه الماء فانخسف موضع اللبن وصار کالخندق حول القبر ولما أتما مراسيم الزيارة نصبا حول القبر علامات شاخصة في عدة مواضع من القبر (تاريخ الحرکة العلمية في کربلاء: نور الدين بن محمد الشاهرودي: 16) ويصف الأشناني الوضع الأمني آنذاک بقوله: (... فخرجنا زائرين نکمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا فجعلنا نشمه...الخ) (مقاتل الطالبيين: علي بن الحسين الأصفهاني: 479).
د) الرابع: سنة 247ه کان قد بلغ المتوکل مرة أخرى مسير الناس من أهل السواد والکوفة إلى کربلاء لزيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وانه قد کثر جمعهم لذلک، وصار لهم سوق کبير فأنفذ قائداً في جمع کثير من الجند وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره، ونبش وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة، وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة فقتل منهم جمعاً کثيراً (بحار الأنوار: للمجلسي: 45/ 397 ح5) وإن هدم المتوکل لقبر الإمام الحسين (عليه السلام) في المرة الرابعة صادف في النصف من شعبان حيث کان الناس يتوافدون بکثرة على زيارة کربلاء في مثل هذا الوقت (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 214).
وقد تولى الهدم في هذه المرة إبراهيم الديزج أيضاً حيث يقول: إن المتوکل امرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين فأمرنا أن نکربه ونطمس أثر القبر، فوافيت الناحية مساءً ومعنا الفعلة ومعهم المساحي والمرود، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت فذهب بي النوم، فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية، وجعل الغلمان ينبهوني، فقمت وأنا ذعر فقلت للغلمان: ما شأنکم؟ قالوا: أعجب شأن؟! قلت: وما ذاک؟ قالوا: إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلک بالنشاب، فقمت معهم لأتبين الأمر، فوجدته کما وصفوا، وکان ذلک في أول الليل من ليالي البيض، فقلت: ارموهم، فرموا فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهم منا إلا في صاحبه الذي رمى به فقتله، فاستوحشت لذلک وجزعت وأخذتني الحمّى والقشعريرة ورحلت عن القبر لوقتي، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوکل لما لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم إلي به (بحار الأنوار: للمجلسي: 45/ 395/ ح4).
وانتشر ظلم المتوکل وذاع خبر هدمه قبر سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) بين الناس فتألم المسلمون لذلک وکتب أهل بغداد شتمه على الحيطان، وهجاء الشعراء. ولقد وضع المتوکل يده على أوقاف الحائر وصادر أموال خزينة الحسين (عليه السلام) ووزعها على جنوده قائلاً: (إن القبر ليس بحاجة إلى الأموال والخزائن) (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 163) وروي لما أجري الماء على قبر الحسين نضب بعد أربعين يوماً وانمحى اثر القبر فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذه قبضة قبضة ويشمه حتى وقع على قبر الحسين (عليه السلام) وبکى، وقال بأبي أنت وأمي ما کان أطيبک وأطيب تربتک ميتاً ثم بکى وانشأ يقول:
أرادوا ليخفوا قبره عن وليه*** فطيب تراب القبر دل على القبر
(ترجمة ريحانة الرسول المستل من تاريخ دمشق لابن عساکر: 275).
ولقد أراد المتوکل محو ذکر الإمام الحسين (عليه السلام) ولکنه قُتِلَ عام 247ه وعلى فراشه وذلک من قواده الأتراک بإشارة من ابنه المنتصر ولم يتم له ما قدره (تراب کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 35).
ولما استقر الحکم للمنتصر في نفس السنة وبلغ مسامع الأشناني توجه من ساعته إلى کربلاء ومعه جماعة من الطالبيين والشيعة - وذکر أنه کان برفقة إبراهيم بن محمد العابد ابن الإمام الکاظم (عليه السلام) المعروف بسيد إبراهيم المجاب (عليه السلام) فلما وصلوا کربلاء أعادوا للقبر معالمه القديمة (تاريخ الحرکة العلمية في کربلاء: نور الدين بن محمد الشاهرودي: 15).
وعند ذاک أي عام 248ه أمر المنتصر العباسي ببناء مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) وإعادته إلى ما کان عليه (العراق قديماً وحديثاً: عبد الرزاق الحسيني: 129) ونصب على قبره الشريف علماً طويلاً ليستهدي الناس إليه ودعا إلى زيارته (عليه السلام) وعطف على آل أبي طالب وأحسن إليهم وفرق فيهم الأموال وارجع إليهم الأوقاف الخاصة بهم کما أرجع فدکاً إليهم (تاريخچة کربلاء: محمد بن أبي تراب کرباسي حائري: 59) وذلک ما اقتضته سياسته لتنفيذ أطماعه، فهب الشيعة إلى زيارته باطمئنان وراحة بال وجاوروه، وفي ذلک يقول السماوي في أرجوزة:
حتى إذا ما انتصر المنتصر وآمن الناس أعيد الأثر وعادت السکان والديار وشيد المقام والمزار (مجالي اللطف: 2/ 20).
ولعل أقدم شخصية علوية سکنت کربلاء وهو السيد إبراهيم المجاب (عليه السلام) وابنه محمد الحائري (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 35) وقبل عام 271 ه زار الحائر الشريف الداعي الکبير الحسن العلوي ملک طبرستان وديلم فباشر بتشييد الحضرة الحسينية واتخذ حولها مسجداً ولم يکن الزمن کفيلاً بإنجازه حيث توفي عام 271ه ، وتولى بعده أخوه الملقب بالداعي الصغير محمد العلوي الذي ملک طبرستان وديلم وخراسان (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 78) وفي سنة 273ه تهدمت بناية المنتصر ومات جمع کثير من الزائرين لازدحام الروضة بالزوار لأنه صادف سقوطه في يوم عرفه أو العيد من ذي الحجة وقيل إن الموفق کان وراء ذلک فقام على اثر ذلک الداعي الصغير محمد بن زيد أمير حرجان بزيارة الحائر وأمر بعمارة المرقد الشريف فانتهى من بنائه عام 280ه فوضع قبة شامخة على المرقد وبابين وبنى للمرقد إيوانين کما بنى سوراً حول الحائر ومنازل للزائرين والمجاورين (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 36 - 38).
وفي سنة 282ه أرسل محمد بن زيد مبلغ اثنين وثلاثين ألف دينار ذهبي لمساعدة العلويين والأشراف عبر واليه محمد بن ورد القطان بل وجعلها عليهم سنوية فاجتمعت الشيعة من جديد وبنت دوراً حول مرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، ويذکر أن الداعي بالغ في فخامة البناء وحسن الزيارة ودقة الصنعة في عمارة الحائر (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 169).
مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) عبر القرن الرابع الهجري
القرن الرابع الهجري:
في سنة 313ه زار الحائر الزعيم القرمطي أبا طاهر الجنابي (من البحرين) وطاف حول القبر مع اتباعه وآمن أهل الحائر ولم يمسهم بمکروه وفي عام 352ه أمر معز الدولة البويهي بإقامة العزاء على الإمام الحسين (عليه السلام) في بغداد وذلک في يوم عاشوراء وکان لهذا الأمر آثاره الإيجابية في تطوير وإعمار مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) وإنعاش مواسم الزيارة، بل وساهم في عمارة المرقد ولما کانت سنة 366ه زار عز الدولة البويهي المرقد الشريف للإمام الحسين (عليه السلام) مما دعم حرکة الهجرة للحائر الحسيني وعمرانه. (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 78).
وفي سنة 367ه استولى عضد الدولة البويهي على بغداد فعرج منها على کربلاء لزيارة مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) ثم أنه جعل زيارته للمرقد الشريف عادة سنوية (أعيان الشيعة: 1/ 628 عن تسلية المجالس).
وفي ظل اضطراب الأوضاع السياسية في العراق وتدهورها تمکن عمران بن شاهين - بعد حادثة طويلة - أن يوفي بنذره، فبنى المسجد عند مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) المعروف باسمه إلى الآن والذي يقع إلى جهة الشمال من الروضة وقد ضم فيما بعد إلى الحرم، أما الرواق الذي شيده فيقع إلى جهة الغرب من قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وهو أول من ربط حزام الحائر بالرواق والظاهر إن ذلک کان في عام 368ه ، (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 39) (بحار الأنوار: 42/ 320) وفي عام 369ه أغار ضبة الأسدي على مدينة کربلاء وقتل أهلها ونهب أموالهم وسرق ما في خزانة الحرم المطهر من نفائس وذخائر وتحف وهدايا، وهدم ما أمکنه هدمه وذلک بمۆازرة بعض العشائر، ثم قفل عائداً إلى البادية فلما بلغ أمره إلى عضد الدولة أرسل في تلک السنة سرية إلى عين التمر وبها ضبة الأسدي فلم يشعر إلا والعساکر معه فترک أهله وماله ونجا بنفسه فريداً، وأخذ ماله وأهله ومُلّکت عين التمر عقاباً لنهبه مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) (تاريخچة کربلاء: محمد بن أبي تراب کرباسي حائري: 101).
وفي العام نفسه 369ه وعندما قام عضد الدولة بزيارته التقليدية للمرقد المطهر للإمام الحسين (عليه السلام) أمر بتجديد بناء القبة الحسينية وروضتها المبارکة وشيد ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) بالعاج وزينة بالحلل والديباج وبنى الأروقة حوالي مرقده المقدس وعمّر المدينة، واهتم بإيصال الماء لسکان المدينة والضياء للحائر المقدس وعصمها بالأسوار العالية التي بلغ محيطها حوالي 2400 خطوة وقطره حوالي 2400 قدم، فأوصل المدينة بترعة فأحياها وأوقف أراضي لاستثمارها لصالح إنارة الحرمين الشريفين أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وأخيه أبي الفضل العباس (عليه السلام) وبالغ في تشييد الأبنية والأسواق حوله وأجزل العطاء لمن جاوره من العلماء والعلويين (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الگلدار: 171) کما أمر ببناء المدرسة العضدية الأولى، کما بنى بجنبها مسجد رأس الحسين (عليه السلام) وعلى أثر ذلک تضاعف عدد المجاورين لمرقده المقدس (مجلة الحوزة - القمية - العدد 72 الصفحة 173).
ولما کانت سنة 371ه واصل عضد الدولة زيارته التقليدية السنوية للحائر المقدس، ويبدو لنا أنه أشرف في هذه السنة على مراسيم الانتهاء من إعمار وبناء المرقد الحسيني المطهر (تاريخ کربلاء وحائر الحسين: عبد الجواد بن علي الکليدار: 172) وذکر الکليدار تفصيلات کثيرة جداً ضمن کتابه تاريخ کربلاء وحائر الحسين.
وفي أوائل القرن الخامس الهجري عام 407ه أصاب الحريق حرم الإمام الحسين (عليه السلام) حيث کان مزيناً بخشب الساج وذلک على اثر سقوط شمعتين کبيرتين في الحرم. وجدد البناء على عهد البويهيين غب ذلک الحريق، حيث قام الحسن بن الفضل وزير الدولة البويية بإعادة البناء نفسه مع تشييد السور، (تراث کربلاء: سلمان بن هادي آل طعمة: 39- 40).
واستمرت القرون التي بعد القرن الخامس الهجري إلى توسيع وتحسين عمارة وبناء مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) توسيع وتطوير مدينة کربلاء وإدخال عليها المشاريع الکفيلة بتحسين الوضع لمصلحة المراقد الشريفة الموجودة في المدينة ولأجل ساکني ارض کربلاء من أهالي مدينتها.
مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) عبر القرون (القرون الأخيرة)
القرون الأخيرة:
أما في العصور القريبة فقد تعرض المرقد الحسيني الشريف لهجمات وحشية ثلاثة:
أ) حملة الوهابيين: في سنة 1216هـ (1801م) أصاب الخراب مباني مدينة کربلاء وذلک عندما دخلوا الوهابيون المدينة فهدموا المساجد والأسواق، والکثير من البيوت التراثية المحيطة بالمرقدين وعبثوا بالمراقد المقدسة وهدموا سور المدينة وکان ذلک يوم 18 ذي الحجة (يوم عيد الغدير) أيام علي باشا، وکان حاکم کربلاء عمر آغا، حيث قتلوا کل من کان لائذاً بالحرم الشريف ودامت هذه الحملة ست ساعات.
وبعد هذه الحادثة تبرع أحد ملوک الهند بإعادة بناء ما خربه الوهابيون، فأخذ المرجع الکبير السيد علي الطباطبائي على عاتقه مسۆولية إعادة بناء وترميم المراقد المقدسة والأسواق والبيوت وشيد المدينة سوراً حصيناً وجعل لهذا السور ستة أبواب (دراسات حول کربلاء ودورها الحضاري: 607 - 629).
ب) حملة نجيب باشا: وکان يوم عيد الأضحى سنة 1258ه حيث استباح هذا الوالي مدينة کربلاء استباحة کاملة ولمدة ثلاثة أيام قتلاً وسلباً ونهباً حتى وصل عدد القتلى اکثر من عشرين ألفاً من رجل وامرأة وصبي وکان يوضع في القبر (وذلک بعد الحادثة) الأربعة والخمسة إلى العشرة، فيهال عليهم التراب بلا غسل ولا کفن، ووجِدَ بالسرداب الذي تحت رواق مقام أبي الفضل العباس (عليه السلام) اکثر من ثلاثمائة من القتلى.
وتم بعد فترة من الزمن بجهود من المۆمنين الموالين بإعادة إعمار المدينة (وتوسيعها وتم إضافة طرف أو محلة العباسية التي قسمت بدورها إلى قسمين يعرفان بالعباسية الشرقية والعباسية الغربية ويفصل...الخ) ويفصل بينهما شارع العباس. (دراسات حول کربلاء ودورها الحضاري: 182 - 607- 629).
ج) حملة النظام الصدامي الحاقد: يوم النصف من شعبان سنة 1411ه ، حيث کانت العملية بقيادة حسين کامل مع الآلاف من الجيش المدعوم بالدبابات، فقام حسين کامل بنفسه بتوجيه فوهة الدبابة الأولى إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام) صارخاً فيمن حوله: (أنا حسين وهذا حسين ولنر من سينتصر في النهاية) وهذا يمثل نداء الطواغيت على وجه الأرض، حيث أدى هذا الهجوم إلى تخريب کبير حدث في الحرمين المطهرين إلى تهديم حدث في رأس أحد المنارتين لمقام الإمام الحسين (عليه السلام) وتهديم السوق الذي کان بين الحرمين وتحويل المنطقة المحيطة بالحرمين إلى خراب کامل لا يرى فيها سوى الحجارة والنار والدبابات وجثث القتلى من رجال ونساء وأطفال وشيوخ وهذا الهجوم السافر أدى إلى قتل الآلاف الذين بقوا على ارض کربلاء لمدة أيام لا يستطيع أحد التقرب منها لدفنها.
أما حسين کامل فقد لاقى حتفه على يد النظام الصدامي وذلک صدقاً للنبوة الکريمة (من أعان ظالماً سلطه الله عليه).
وتم تعمير المرقدين والمدينة وإحداث شوارع جديدة وذلک بعدما ألغت شوارع کانت منذ القديم.
ونلاحظ الحکام الطواغيت تستغل أيام المناسبات والأعياد الدينية للقيام بمثل هذه الأعمال الجائرة، وذلک لتجمع الزوار وتوافدها لزيارة المراقد الشريفة.
انتهای پیام |