ثورة المستضعفين .. تبقى متميّزة
التجربة الإسلاميّة في إيران وضعت التاريخ البشري على مسار جديد. فلأوّل مرّة في تأريخ هذا الکوکب تتفجّر ثورة شعبيّة بهذا العمق والمساحة والأبعاد. ولأوّل مرّة کذلک يزحف المستضعفون والمحرومون على الطغاة بهذا الشکل، ويواصلون الزحف حتّى يعصفوا بوجودهم.
فقد ألف الإنسان وبالأخص إنسان هذا العصر ـ وهو عصر التحوّلات السياسيّة الضخمة ـ أن يسمع أنباء تغيير الحکّام من خلال العمل الّذي يباشره العسکر، وإن کانت تسبقه أحياناً مظاهر سخط شعبي: من تظاهرات واضطرابات واحتجاجات وسواها.
وهذه الصيغة من التحوّلات السياسية قد فقدت بريقها وقيمتها، ولم تعد تثير اهتمام الشعوب، بعد أن جرّبتها کثيراً فيئست من عطائها الّذي يقف عادة عند حدود الکلام والشعارات. هذا إذا لم تکتشف الشعوب أنّ مسألة تغيير الحکام بحکّام جدد على ما يصحبه من ضجيج وبيانات حماسيّة، وکلمات معسولة، ووعود خداعة ـ مسرحية معدّة سلفاً أجاد النفوذ الأجنبي صياغة أدوارها وتمثيلها على خشبة المسرح، لکي يعطي لوجوده عمراً أطول.
على أنّ الثورة الإسلاميّة في إيران قد خالفت المألوف من الثورات، ولعلّ أولى مزاياها أنّها جاءت من القاعدة. من جماهير المستضعفين العريضة. فقد اشترکت فيها کلّ القطاعات الشعبيّة، وتأتي في الطليعة القوى العاملة والفلاحون والطلبة والمثقفون والعلماء وکثير سواهم.
والميزة الثانية فيها: اعتماد جماهيرها على قوتهم الذاتية، فلم تدعم الثورة لا من قوى عالمية ولا من قوى المنطقة، بل العکس هو الّذي کان قائماً، فحکومات المنطقة والقوى العالميّة مجمعة على عدم الرضا عنها إن لم نقل محاربتها، فهي من الثورات غير المسموح بها في عرف النفوذ الأجنبي المهيمن فيما يسمّى بالعالم الثالث.
وحتّى الدول الّتي تسمي نفسها نصيرة للشعوب أو مهتمة بقضايا الثورات الشعبيّة وقفت منها موقفاً متحيزاً لصالح الطغاة کما هو الحال في موقف الصين الشيوعيّة أثناء الثورة ـ کما ترجمته زيارة نائب رئيس وزرائها لبلاط الشاه ـ وليس عجباً أن تجمع حکومات المنطقة على دعم الشاه في آخر أيّامه. فالتصريحات من قبيل: «الشاه باق.. باق» کانت تردّدها الشفاه المرتجفة کلّ يوم تقريباً قبل رحيل الشاه.
.. قد يقال مثلاً إنّ الثورة الإسلاميّة کان لها نظير في الماضي، الماضي القريب، والمقصود بذلک الثورة الفرنسيّة والثورة الروسيّة والثورة الصينيّة، غير أنّ هذا التصوّر غير دقيق اطلاقاً. فالثورة الفرنسية لم يشارک فيها غير سکان مدينة باريس فقط، أمّا مدن فرنسا الأخرى فکانت بحکم المتفرّجة على أحداث الثورة، وحتّى المواطنون الباريسيون لم يشارکوا جميعهم فيها، وإنّما قامت الثورة على أکتاف «تجمّع» من المواطنين البائسين فحسب.
وهو الأمر الّذي يختلف عن الثورة الإسلاميّة في إيران الّتي ساهم فيها الشعب کلّه بکافّة قواه وفصائله کما ذکرنا، ولم تتخلّف أيّة مدينة فيها عن تقديم قوافل من الشهداء.. لقد شارک الشعب المسلم الإيراني مشارکة فعّالة ويوميّة بالثورة الجبّارة. بالمظاهرات والاضطرابات ومواجهة رصاص الطغيان. وقد جابهت الثورة الاسلامية أشرس طاغية في المنطقة وواجه الشعب کلّ وسائله القمعية لمدة عام کامل تقريباً قدَّم فيه عشرات الآلاف من الشهداء، بينما استمرّت الثورة الفرنسيّة قرابة شهر فقط، وذلک لضعف الجهاز الحاکم المقابل. وما قيل بصدد المقارنة بين الثورة الإسلاميّة والثورة الفرنسيّة يقال عن الثورة البلشفيّة في روسيا والصين کذلک.
الثورة الإسلاميّة مميّزة عن سواها في تاريخ الثورات، من حيث شکل القيادة ومساحة المشارکة الشعبيّة، ومن حيث المطالب والطموحات، وحجم المقاومة ووسائل المواجهة.
ففي روسيا کانت الأزمة الاقتصاديّة الخانقة في البلاد، وخسائر الحرب العالميّة الأولى الّتي منيت بها روسيا قد زعزعت هيبة الحکم القيصري ممّا أعطى مزيداً من الفرص لخوض النضال من أجل إسقاط الحکم. ومع هذا فإنّ المشارکة الشعبيّة لم تکن بحال تشبه الوضع في إيران أبداً ـ لا من ناحية الحماسة، ولا من ناحية الساحة، ثمّ إنّ الثورة الإسلاميّة المظفّرة لم تکن الظروف الدوليّة والمحلّية قد تهيأت لها کما هو حال الثورة البلشفيّة، فلا حرب عالمية تهزّ عرش السلطان وتغير في موازين القوى، ولا وهن في داخل الجهاز الحاکم.
فالثورة الاسلامية قد اندلعت والشاه في عنفوان سطوته بما يملک من جيش ضخم يعدّه البعض ثالث جيش في مضمار حداثة السلاح وقوّته، وما يملک من سافاک «شرطة سرّية» وقوى إرهاب أخرى لم يحدِّثنا التاريخ إلاّ بجزء منها في قصص الإرهاب الشيوعي والنازي.
ولعلّ من المفارقات الأساسيّة بين الثورة الشعب المسلم الإيراني والثورة البلشفيّة أنّ قيادة الشعب المسلم کانت توجهه من المنفى، فکان يجسِّد کلّ کلمة إلى عمل، بينما کانت قيادة لينين متواجدة في صفوف الروس، وکانت تعليماته تمر عبر القنوات الحزبية على شکل أوامر، بينما کانت الجماهير المسلمة الإيرانيّة تأخذ تعليمات الإمام الخميني أخذاً دون أن تمرّ بالروتين الحزبي المألوف، إنّما کان تۆديها کما تۆدّي فروض العبادة، إنّها قوّة الإسلام العظيم حقّاً، فهو يفعل في نفوس المۆمنين ما ليس بمقدور أيّة قوّة أو فکرة أن تفعله في النفوس.
ووضع الثورة الصينية شبيه بالثورة الروسيّة من حيث الظرف الدولي، فاندلاع الحرب العالميّة الثانية وما ترتب عليها من تغير في ميزان القوى العالمية، إلى ما کانت تتلقاه الثورة الصينيّة من مساعدات من المعسکر الروسي قد أنضجت الظروف الموضوعيّة لتفجير الثورة. هذا إضافةً إلى الفشل الّذي منيت به حکومة الصين الإمبراطوريّة في إرضاء طموحات ملايين الناس.. حيث السياسة الإقطاعيّة الظالمة، والإهمال المتعمّد لمصالح الناس، فلا ثورة بيضاء يسبح الإعلام الإمبراطوري بحمدها، ويضلّل الناس بخيراتها الموعودة، ولا جيش نظامي من أقوى جيوش العالم ولا جهاز رهيب للسافاک!!
والعلامات الفارقة الأخرى کذلک نجدها في کون الثورة الصينية نجحت على مراحل واستغرقت سنوات، وکان يدعمها جيش نظامي «جيش جان کاى تشيک»، ووحدات فدائية منظّمة، بينما کانت عدّة الشعب المسلم الإيراني: التظاهرات والاحتجاجات والتصميم على النصر، وبذل النفوس وحرارة الإيمان.
وهکذا تکون الثورة الإسلاميّة مميّزة عن سواها في تاريخ الثورات، من حيث شکل القيادة ومساحة المشارکة الشعبيّة، ومن حيث المطالب والطموحات، وحجم المقاومة ووسائل المواجهة.
وتبقى بعد ذلک ميزة تعدّ أساسيّة من حيث الأهمّية في هذه الثورة المبارکة لأنّها ثورة صادقة للمستضعفين والمحرومين، ولأنّها ثورة إسلاميّة تهدف من أجل إعادة الرسالة الإسلاميّة إلى موقعها الحقيقي في حياة الناس، کرسالة حاکمة ومدبرة لشۆونهم الخاصة والعامة، فقد حظيت بانفتاح الأمّة عليها والتفاعل معها في جميع أقطار العالم الإسلامي، بقدر ما أثارت هلع القوى الاستعماريّة في العالم ووکلائها في المنطقة.
إنّ الهزّة العنيفة والعمليّة التحريکيّة لإنسان المنطقة الّتي أعقبت الثورة، دليل على صدقها وسعة شعبيّتها وسلامة أهدافها، وتجاوبها مع طموحات المستضعفين في الأرض، وهذا ما يفسّر التجاوب الواسع العميق بين الثورة والشعوب المحرومة.
أليس هذا دليلاً على أنّ الشعوب قد وجدت فيها أملاً ونبراساً وانعطافاً لصالح الرسالة والإنسان؟
إنّ الأيّام القادمة ستفرز العديد من ألوان التفاعل مع هذه الثورة الأصيلة، وستفعل فعلها في مسيرة الأحداث في العالم الإسلامي کلّه إن شاء الله تعالى.
إنّها الثورة الّتي اکتشف الإنسان المستضعف فيها ذاته، وهي التعبير الصادق عن طموحاته وتوجّهاته وأهدافه..
{ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}.
انتهای پیام |