۱۴۰۰/۱۲/۱   14:5  بازدید:1927     المقالات


قيمة السکوت

 


قيمة السکوت

سکوت

 

روي عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنه قال: (السکوت ذهب والکلام فضة).

لکل من الذهب والفضة قيمة، ولکن الذهب أغلى من الفضة کما هو معلوم، وقد لوحظ ذلک في الأحکام الشرعية أيضاً، فدية المرء المسلم -مثلاً-هي ألف دينار من الذهب أو عشرة آلاف درهم فضة.

هذا الحديث الشريف يجعل النسبة بين الکلام والسکوت کالنسبة بين الفضة والذهب، فکما أن للفضة قيمة وللذهب قيمة ولکن قيمة الذهب أغلى فکذلک يمکن مقارنة السکوت إلى الکلام.

تارة يکون الکلام واجباً، ولا شک أن السکوت غير مفضّل عليه في مثل هذه الحالة، ومثاله الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر، وتارة يکون السکوت واجباً ويأثم الإنسان بترکه، کما لو أدى الکلام إلى قتل النفس المحترمة، وفي مثل هذه الحالة يکون السکوت مفضلاً، بل لا يجوز الکلام.  ومن الواضح أن الحديث الشريف غير ناظر إلى مثل هذه الموارد، بل هو يقرر حقيقة أخلاقية مفادها أن السکوت بنفسه -إذا لم تکن هناک مرجحات للکلام-خير وأغلى.

ويمکن توضيح الأمر بمثال مادي:

لو قلنا إن الأرز أغلى من القمح فإن ذلک لا يعني أنه کذلک في کل الظروف والأحوال، وبالنسبة لکلّ الأشخاص، ولکنا مع ذلک نقول: إن الأرز أغلى من القمح لأن هذا هو الغالب.

إذن المقصود من الحديث الشريف أن السکوت النافع أغلى من الکلام ، ما لم يکن هناک مرجّح لأحدهما على الآخر.

روي أيضاً: (إذا رأيتم المۆمن صموتاً فادنوا منه، فإنه يُلقّى الحکمة). والصموت مبالغة صامت أي کثير الصمت. والحکمة أغلى شيء في حياة الإنسان.

وهذا الحديث الشريف يکشف أن الحکمة تأتي في الغالب من الصمت أکثر من الکلام، لأن الحکمة وليدة التأمل والتدبّر والتعقّل، وهذه کلها تتحقق في الصمت والسکوت.

والأحاديث في هذا المجال عديدة، وهي يُفسّر بعضها بعضاً، ومنها الأحاديث التي تنهى الإنسان عن التکلم فيما لا يعنيه، قال رسول الله " صلى الله عليه وآله": (من حسن اسلام المرء ترکه الکلام فيما لا يعنيه)، أي إن على المرء أن يفکر في الکلام قبل أن يطلقه هل يعود عليه بالنفع أم لا؟! فإن لم يعد عليه بالنفع فليختر السکوت، وليتخلَّ عما کان يريد قوله.

عن الإمام علي " سلام الله عليه" أنه قال: (لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه)

نضرب لذلک مثلاً مادياً أيضاً، لأن الأمثلة المادية تقرب المعنويات إلى الأذهان، والإنسان بطبعه يحس بالماديات أکثر:

لو خيّر إنسان محتاج من الناحية المادية بين أمرين: الحضور في ساحة والتکلم فيها لقاء دينار مثلاً، أو البقاء ساکتاً لقاء دينارين، فأيهما سيختار؟ لا شک أنه سيختار الثاني لأنه أنفع له وأکثر ربحاً.

السکوت طريق الرّقيّ

بعد أن ضربنا هذا المثال المادي نقول:

إن السکوت هو الطريق الأفضل والأسرع لرقي الإنسان وتکامله، لأن الإنسان ميال بطبيعته لأن يقول کل ما يشعر به ويعلمه ويعرفه، مع أن معظمه لا يتناسب من حيث القيمة مع ما يصرفه الإنسان من وقت في هذا السبيل، في حين أن التأمل والتفکر يعطي نتائج أفضل.

 وإذا کان الناس يعظّمون المبدعين والمخترعين والمکتشفين فإن الإبداع في کل مجالات الحياة يظهر نتيجة التأمل وليس الکلام.

إذا کان المۆمن صموتاً فإن تفکيره لا ينصرف إلى المال والشهوات، بل يفکّر في التعالي والسمو في طريق الخير والهداية والفضائل والکمال، وإذا أصبح کذلک أبدع فکره، وتفتّحت أمامه آفاق أخرى.

نقرّب الموضوع بمثال من واقع الحياة المادية أيضاً:

لو أن شخصاً أراد أن يشتري بضاعة ما، فتأمل قليلاً قبل ذلک، فربما انتهى إلى أن هذه البضاعة يمکن اقناۆها في أمکنة متعددة، وأن سعرها قد يکون في مکان ما أرخص مع الاحتفاظ بالمواصفات نفسها، وربما بمواصفات أحسن، وانتهى إلى أن من مصلحته أن يشتري نوعية معيّنة بالمواصفات الممتازة بتفاوت أقل في السعر.

 ولو کان هذا الشخص قد بادر إلى شراء البضاعة دون تأمل وتفکر فربما ندم لفوات الأفضل والأرخص.

الحالة نفسها تصدق في المعنويات، فالطالب -مثلاً-يتأمل ويفکر في اختيار الدروس وسلوک الطريق الذي يختصر عليه الوقت، والمحاضر يفکر کيف يرفع من مستوى الحاضرين، والداعية يخطط قبل أن يبدأ بهداية الشباب، وهکذا المجاهد والعالم والقائد .. کلٌّ يبحث بالتأمل والتدبر عن أسهل الطرق وأسرعها بلوغاً للهدف، وهذا کله لا يأتي إلا بالصمت، فبه وبالتأمل وملاحظة الأمور ومقارنتها بعضها مع بعض بلغ العظماء ما بلغوا.

وعندما نراجع سيرة العظماء وتاريخ العلماء ومراجع الدين نجد أنهم کانوا کثيري الصمت والفکر والتأمل.

العاقل يفکّر ثم يتکلّم

عن الإمام علي " سلام الله عليه" أنه قال: (لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه) أي إن الأحمق سريع الکلام، يطلق القول قبل أن يفکر فيه، خلافاً للعاقل فإنه يفکر في الکلمة قبل أن يقولها.

ونقل عن بعض الحکماء أنه کان يقول: (لا ترسل کل کلمة مع أول خطورها إلى الذهن، بل ارجعها إلى الفکر وتمعن فيها سبع مرات قبل أن يطلقها لسانک). ولا شک أن من يتريث إلى هذه الدرجة تقلّ شطحاته وزلاّته غالباً، ويقل ندمه إثر ذلک.

لقد عرف الشيخ محمد تقي الشيرازي "رحمه الله" بأنه کان کثير الصمت، کثير الفکر، واشتهر بهذه الصفة حتى تناقلتها الکتب والعلماء.  ومن جملة ما نقل عن أحواله في هذا الصدد أنه کان إذا دار نقاش بين تلاميذه في مسألة ما فلا يدخل في النقاش إن رأى أنه لا يعود بالنفع على الموضوع الذي يتکلم فيه.

لقد صحب النبي "صلى الله عليه وآله" أو عاصره الآلاف من المسلمين وغيرهم، ولکن الذين عُرفوا واشتهروا بالفضل -عدا أهل البيت سلام الله عليهم-يعدون على الأصابع، ومن أبرزهم أبو ذر الغفاري، وقد عرف من بين أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وآله" أن أکثر عبادته التفکر.  فعن أبي عبد الله الصادق -سلام الله عليه-: (کان أکثر عبادة أبي ذر التفکر والصمت).

وهکذا لو ألقيتم نظرة على ما حولکم ترون أن أکثر من بلغوا المراتب العالية في الدنيا والدين، في العلوم الدينية وغيرها -کالطب والهندسة والتجارة-هم أناس مفکرون يرکزّون على التفکير والتأمل، ولهذا عُدّ الصمت من فضائل الأخلاق.

لوقت الإنسان أغلى الأثمان

هذا وليس المقصود بالصمت عدم الحديث مطلقاً، فکما إن الثرثرة ممقوتة فکذلک السکوت حيث يعود الکلام بالنفع على الذات أو المجتمع.  إن المطلوب أن لا يبذر الإنسان وقته في الحديث غير النافع، لأن الوقت أغلى من المال. والمال قد يعوّض، أما الوقت فغير قابل للتعويض، ولقد ورد في الحديث عن الإمام أمير المۆمنين "سلام الله عليه": (إنه ليس لأنفسکم ثمن إلا الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها).

فحري بالإنسان أن يستفيد من ساعات عمره أقصى ما يستطيع، کما يفکّر باستثمار أمواله على أحسن نحو يمکن، فتراه لا يبذّرها بل لا ينفقها إلا حيث يحب، ولا يعطي منها أکثر مما يحب، وإذا أراد شراء حاجة ماکس في سعرها حتى يخفضها إلى أقل ما يستطيع، هذا مع أن المال سهل التحصيل نسبيّاً، ولا يودي ذهابه بحياة الإنسان، أما وقت الإنسان فهو ثروته الحقيقيّة، ولذلک يجب عليه أن يعرف کيف ينفقها ولا يبيعها بالتافه.

فلنقرّر من الآن أن نتعوّد على الصمت والاستفادة من الوقت، وهذا لا يتحقّق دفعة واحدة، بل يأتي عبر المران والترويض، ويبدأ بالقليل ثم يزداد شيئاً فشيئاً، وذلک بأن يصمّم المرء أن يکون منتبهاً لنفسه کلّ يوم في ساعة معيّنة، فلا يتکلّم إلا بعد أن يتأمل ويشخّص أنه نافع، ويستمر على هذه الحالة لمدّة أسبوع مثلاً، بعد ذلک يزيد المدة إلى ساعتين، وهکذا لمدة أسبوعين أو شهر مثلاً، ويستمر يزيد عدد الساعات التي يراقب نفسه فيها بمرور الزمن حتى تصبح الحالة ملکة عنده.

هذه التجربة التي أنقلها لکم خلال عدة ثوان أو دقائق يحتاج تحقيقها إلى وقت طويل، ولکنها ثمينة جدّاً، لأن ما يحصله الإنسان منها هو أغلى شيء في الحياة، وهو عمره وتاريخه وحياته وثروته الحقيقية في هذه الدنيا التي يتاجر بها لکي يربح الحياة في الآخرة.

أولياء الله أهل صمت وتأمّل

إن الإنسان المهذار الثرثار الذي يطلق للسانه العنان، ويتفوّه بکل ما يخطر بباله، ولا يرى قيمة لوقته وحياته، مثل هذا الإنسان لن يصل إلى شيء.

أما نحن الذين نهدف إلى بلوغ جوار الله تعالى والقرب من الأنبياء والمتقين فينبغي أن لا نکون کذلک، وأن نعلم أن التکامل لا يأتي من لا شيء وبلا تأمل وفکر.

کان للإمام موسى بن جعفر "سلام الله عليهما" ولد يسمى بـ"زيد النار"، لأنه أحرق بعض بني أمية بالنار، ولم يکن سالکاً طريق أبيه، فقال له الإمام الرضا " سلام الله عليه" يوماً ينصحه: (إن کنت ترى أنک تعصي الله وتدخل الجنة، وموسى بن جعفر - سلام الله عليه- أطاع الله ودخل الجنة ، فأنت إذاً أکرم على الله - عزّ وجل - من موسى بن جعفر ، والله ما ينال أحد ما عند الله - عزّ وجل - إلا بطاعته).

ونحن الذين نريد أن نکون غداً مع أولياء الله في الجنة، ليس لنا إلى ذلک إلا طريق واحد، وهو سلوک طريق أولياء الله تعالى، ومن أساسيات طريقهم أنهم کانوا أهل صمت وتأمل، وکما ورد في الحديث عن الإمام أبي عبد الله الصادق "سلام الله عليه":(الأغلب من غلب بالخير، والمغلوب من غلب بالشر، والمۆمن ملجم).

في حديث آخر أنه توجد على لسان الإنسان أربعة أبواب، وهي الشفتان الفوقية والتحتية والأسنان الفوقانية والتحتانية، فلماذا لا يلتزم الإنسان الصمت رغم کل ذلک؟!

هب أن بعض الکلام ليس حراما، ولکن لماذا الإسراف والتبذير؟ أجل إن هذا من أسوأ أنواع الإسراف، وإن لم يذکر تحت اسمه، وربما لم يعرف ذلک کثير من الناس، ولکن في الواقع قد يکون أسوأ من إسراف المال أحياناً.

تبلور مما تقدم أن الصمت أحد الفضائل الأخلاقية التي يحتاج الإنسان لتحصيلها إلى التجربة، وتحتاج التجربة إلى زمن، وإلى ثبات وصمود، بيد أنه يجب -مع ذلک-على الإنسان أن لا يغفل عن الاعتماد على الله "سبحانه وتعالى" والتوسل به وصولاً إلى النتيجة، قال الله تعالى: (قل ما يعبأ بکم ربي لولا دعاۆکم).

فهذه خمس فضائل (معرفة قيمة الوقت، والتأمل قبل الکلام، وترويض النفس، والثبات، والاعتماد على الله تعالى) وصولاً إلى فضيلة الصمت التي إن وفقنا لبلوغها سنشعر حينها کم من کلماتنا قد ذهبت قبل ذلک هدراً بلا نفع لأنفسنا ولا لغيرنا، فلننتهز الفرصة قبل أن يأتي يوم لا نستطيع أن نزيد فيه حسناتنا أو ننقص من سيئاتنا.

 

المصدر:

کتاب المقام الرفيع للسيد صادق الشيرازي

اعداد: سيد مرتضى محمدي


انتهای پیام