بلاغة علي بن أبي طالب ( عليه السلام )
|
|
إن النص في نهج البلاغة - کتاب علي بن أبي طالب - يتمتع بسلطة فائقة ، محکمة ، نادرة . وهي تُحيل القارئ ( والسامع ) إلى أنموذج العلاقة بين الأفکار والأسلوب .
فثمة نص شکلاني ، قائم على إبداعية الشکل ، وهو نص إنتاجي من عمل الفنان المبدع ، إلاّ أنه يتمتع بمزاياه الفنية الخالصة ، کشکل فني قوي الاتصاف ، سواء بصورته التجريدية أو بصورته الرمزية ، أو بکيفيّته التقليدية .
فقد يکون النص ، مثل اللوحة التي تُحاکي الطبيعة ( أو الواقع ) ، أو أنه يکون أداة تعبير عن الذات ، بکل استطاعات التعبير الممکنة . وعادة ، يکون التعبير النثري متعرضاً للشد والجذب بين قُطبي الذات والموضوع ، بما يُرافق ذلک من توسّعات لغوية ، أو حشو ، أو فجوات ، أو نواقص .
وهو - أي التعبير النثري - في ملاحقته للأفکار ، ينتهج طرائق وأساليب عادة ، متباينة في درجة نجاحها ، فهو أحياناً يصل إلى الأفکار ، وأحياناً يتقدم عليها ، أو يتخلف عنها ، وهو - أحياناً - يتماسّ وإياها ، قد يُعبّر عنها بصراحة ، أو بإيحاء ، بوضوح تام ، أو بإيماء .
في بلاغة علي بن أبي طالب ، أنموذج رفيع للنص المتطابق الذي يُجسد سلطة علي بن أبي طالب على نفسه ، تلک السلطة التي ينطلق منها في رؤية العالم الخارجي .
وتوضح سيرة علي بن أبي طالب ، أحسن توضيح ، تلک الطبيعة الحقّانية الصادقة التي تتبلور في عرض الأفکار - أفکاره هو - وفي البلاغة البيانيّة له .
فالنص لديه - ينقل أفکاره بصدق تام . بمعنى أنه يعطي صورة للبلاغة ، ذات ميزان دقيق ، يستبعد کل بلاغة ( بلاغية ) تسوحُ في جولات الأساليب ، والشکليات المتغيرة .
حقاً ، کان قادراً في فنونه البلاغية المبدعة ، لکنه لم يندمج في ظاهرة البلاغة من أجل البلاغة ، التي کانت الإطار لعملية إيصال الأفکار .
لقد کانت الأفکار تُوصَل على نحو فعّال ، بتصعيدات بلاغيّة تثير الإعجاب ، أي أن البلاغة کانت تتولى وضع الإضافات فوق المعاني وحواليها ، بالتعبير عن موهبة بلاغية معجبة ، فثمة ( معانٍ ) تتخللها ، وتحيط بها زرکشات لفظية ، مُدلّلة على القدرة البيانية ، التي انتشرت شعراً ونثراً منذ العصر الجاهلي .
أما بلاغة علي بن أبي طالب ، فقد تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد ، وهو - في الوقت نفسه - يخرج من عالم الأفکار مثل الفکرة الجديدة ، الباهرة .
إنه يتناول مسائله الفکرية وکأنها تُولد تواً . وکذلک هو في تناوله للمسائل الفکرية المتداولة ( والمشترکة ) وکأنها معطيات جديدة ، ذلک لأن قدرته البلاغية ابتکارية ، توليدية .
فالنص يُولد متکاملاً ، في تأديته الوظيفية الخاصة به ، رغم أنه يُبرهن - في حالات ثانية - عن جدارات أسلوبية .
لکن علياً بن أبي طالب لم يکن رغم ما أوتي من ميلٍ للدعابة - أحياناً - راغباً بأن يبتعد عن رسالته لحظة .
إن طغيان الجديّة کان من وقر المسؤولية الثابت .
وهو - في ذلک - کان متّسماً بالصدق التام ، الذي يجب أن نرى فيه اختلافاً کبيراً عن أنواع أخرى من الصدق المرحلي ، الموقت ، وغير الثابت .
فثمة أوجه عديدة للصدق ، کذلک هناک صدق في مناسبة ، وعدمه في سواها . کان علي بن أبي طالب صادقاً في جميع الأوجه والمناسبات ، لأن أفکاره کانت تشق الطبقات الکثيفة ، والزيادات ، والتلافيف التي تحول بين الناس والحق .
فالنص هو الفکرة والأداة معاً ، هو المضمون والشکل ، في اتّحادهما المتبادل الإغناء ، في إعطاء دلالات مؤکدة ، کان الإمام علي يُظهر نفسه فيها من جانب ، ويُحمّلها الطاقة التوصيلية للوصول إلى الآخرين من جانب آخر .
ويتضافر الجانبان في العملية الواحدة ، التي تُکرس صدق القضية ، وتهيئ الآخرين للتجاوب مع الصدق . فالنص - في نهج البلاغة - ليس قطعة بلاغية ذات جمال مجرد . بل هو وظيفة متقنة ، إنه ثمرة التزاوج الطبيعي بين البلاغة والأفکار ، والذي ترتّب عليه إنجاب أفکار جديدة ، واستحداثات لغوية وبيانية جديدة .
من المؤکد أن النص الأدبي الذي يُصبح - بسبب أهميته - مستقلاً ، قائماً بذاته ، بعد تجاوز ظرفه ، هو - في حقيقته - تعبير عن طبيعة صاحبه . فالنص هو الشخصية التي تنشئ عدة شخصيات أخرى ، مجنّدة لمهماتها المحددة .
وتُعد الکلمات ، في النص الأدبي کائنات حية ، لم تُخلق عبثاً . وليس من الضرورة بمکان أن تکون إنشاءات الکاتب الأسلوبية على صورته ، من الناحية الظاهرية ، لکن من الضروري للکاتب الحقيقي أن يکون العمق الفکري له ماثلاً في الحرکة التحتية للنص .
فأبو تمام کان يُحرّک ألفاظه کأنها رجال قد رکبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم ، وتأهبوا للطراد ، والبحتري کان يُحرّک ألفاظه وکأنها نساء حسان عليهن خلائل مصبّغات ، وقد تحلين بأصناف الحلي ، کما يقول ابن الأثير الموصلي ، لکن أبا تمام کان حاضراً وراء الألفاظ - والأشخاص ، وکذلک البحتري ، کلاً بطبيعته الخاصة ، وبخياراته الخفيّة أو الظاهرة .
کانت مقدرة علي اللغوية ، والبيانية ، بالغة الفراهة ، غير أنه کان يريد إصابة المعنى دائماً ، بسبب نظرته الفلسفية ، وأفکاره الجمّة التي کان يُصارع من أجل انتشارها . ونظراً إلى تعدد مناحي الثروة الفکرية ، وغنى طبيعة علي بن أبي طالب ، فإن النص جاء محمّلاً بالدلالات الغنية المُتنوعة ، فهو قمة تتويج العلاقة الحرة بين المعنى والمبنى .
انتهای پیام |